يواجه العراق تحديات كبيرة في مجال التلوث البيئي، والذي يشكل تهديداً خطيراً على صحة الإنسان والبيئة. يعد تلوث الهواء من أبرز المشكلات التي تعاني منها المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة وكربلاء، حيث تتراوح نسبة التلوث فيها بين 65 و 80% من المعدلات العالمية المقبولة، ويعود ذلك إلى الاستخدام المكثف للمولدات الكهربائية التي تعمل بالديزل، ووسائل النقل القديمة، والأنشطة الصناعية المكثفة، إلى جانب العواصف الترابية التي تزيد من تركيز الجسيمات العالقة PM10. وقد أكدت دراسات وزارة البيئة وتقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة على أن هذه المستويات العالية من التلوث أدت إلى زيادة أمراض الجهاز التنفسي والمشاكل الصحية المرتبطة به.

نسب ملوثات الهواء في بغداد حسب تقارير وزارة البيئة لعام 2023
أما تلوث المياه، فهو يتسم بنسب تتراوح بين 50 و70% من مصادر المياه السطحية والجوفية المتأثرة بالتلوث العضوي والكيميائي، خاصة في نهري دجلة والفرات وشط العرب، بسبب تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة، والمخلفات الصناعية، وزيادة ملوحة المياه نتيجة تقليل تدفقات المياه من دول الجوار. تؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية والأبحاث المحلية أن هذه النسبة العالية من التلوث تؤدي إلى تفشي أمراض معوية وجلدية، بالإضافة إلى تأثيرات سلبية على صحة السكان المحليين، خاصة في محافظات البصرة والناصرية والديوانية.
فيما يخص تلوث التربة، فإنه يرتبط بالاستخدام المكثف للمبيدات والأسمدة الكيميائية، فضلاً عن وجود مخلفات حربية ومواقع نفطية ملوثة، وتبلغ نسبة الأراضي الزراعية المتأثرة ما بين 40 و60%. وقد أظهرت الدراسات البيئية أن هذه الملوثات المعدنية والكيماوية تؤثر بشكل مباشر على خصوبة التربة وجودة المحاصيل الزراعية، مما يهدد الأمن الغذائي في مناطق الوسط والجنوب. وتشير تقارير وزارة الزراعة ومنظمات بيئية دولية إلى أهمية اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة تلوث التربة.
أما تلوث النفايات، فهو يمثل تحديًا بالغًا بسبب تراكم كميات كبيرة من النفايات غير المعالجة التي تصل نسبتها إلى ما بين 55 و75% من إجمالي إنتاج النفايات اليومية، وتشمل هذه النفايات المنزلية والطبية والصناعية والإلكترونية. ويؤدي هذا التراكم إلى تلوث التربة والمياه والهواء في المدن الكبرى مثل بغداد والموصل والبصرة. وتوصي تقارير وزارة البلديات والبنك الدولي بضرورة تطوير منظومة شاملة لإدارة النفايات تعتمد على الفرز والمعالجة والتدوير للحد من هذه الآثار البيئية الضارة.
إن السيطرة على هذه الأشكال المتعددة من التلوث تتطلب وضع استراتيجيات شاملة ومتكاملة تعتمد على تحديث التشريعات البيئية، وتعزيز الرقابة على المصانع ووسائل النقل، وتطوير البنية التحتية لمعالجة مياه الصرف الصحي، إلى جانب تبني تقنيات حديثة لإدارة النفايات والتقليل من استخدام المبيدات الكيميائية الضارة. كما يجب تعزيز الوعي المجتمعي بدور كل فرد في الحفاظ على البيئة، وإقامة برامج تعليمية وصحية تدعم هذا الهدف.
وفي ضوء التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق في مجال البيئة، من الضروري تبني نهج استراتيجي طويل الأمد قائم على البحث العلمي والممارسات المستدامة. إن التلوث البيئي لا يؤثر فقط على الصحة العامة، بل يمتد تأثيره إلى الاقتصاد الوطني من خلال انخفاض إنتاجية الإنسان، وتراجع إنتاج المحاصيل الزراعية، وازدياد تكاليف الرعاية الصحية، وتدهور جودة الحياة بشكل عام. وبالتالي، فإن التعامل مع هذه الظاهرة لا يمكن أن يكون جزئياً أو مؤقتاً، بل يجب أن يشمل كل القطاعات الحيوية ضمن رؤية وطنية متكاملة.
من الوسائل الفعالة في السيطرة على التلوث البيئي، تعزيز التعاون بين المؤسسات الأكاديمية والبحثية والهيئات الحكومية. حيث يمثل الاستثمار في البحوث البيئية وتطوير حلول محلية لمعالجة المياه الملوثة، وإعادة تدوير النفايات، والتقليل من الانبعاثات الصناعية والزراعية، خطوة محورية نحو بناء بنية تحتية مستدامة. فعلى سبيل المثال، يمكن توظيف التكنولوجيا الحيوية في استخدام كائنات دقيقة لتحلل الملوثات العضوية في المياه والتربة، وهو ما أثبت نجاحه في تجارب عالمية عدة.

بالإضافة إلى ذلك، يمثل تطوير منظومة وطنية للرصد البيئي ضرورة قصوى، وذلك من خلال إنشاء شبكات مراقبة إلكترونية قادرة على جمع وتحليل البيانات في الزمن الحقيقي، لتوفير مؤشرات دقيقة ومحدثة تساعد صناع القرار على تحديد مناطق الخطر، واتخاذ إجراءات فورية وفعالة. كما يمكن إشراك الجامعات والطلبة في عمليات المراقبة المجتمعية، ما يعزز الوعي البيئي ويخلق جيلاً مساهماً في حماية البيئة.
ويُعد التشريع البيئي المتكامل أحد الركائز الأساسية لنجاح أي خطة بيئية، إذ أن القوانين الحالية تعاني من ضعف في التطبيق ونقص في المتابعة والرقابة. لذلك، من الضروري تحديث الأطر القانونية لتواكب المتغيرات البيئية والتكنولوجية، وربطها بخطط إنمائية واضحة تتضمن أهدافًا ومؤشرات أداء قابلة للقياس. كما ينبغي تعزيز سلطة الأجهزة الرقابية ومنحها الصلاحيات الكافية لمساءلة الجهات الملوثة.
وإلى جانب التدخلات الحكومية، لا بد من إشراك القطاع الخاص في جهود الحد من التلوث، وذلك من خلال فرض ضرائب بيئية على الأنشطة الملوثة، وتقديم حوافز ضريبية للمؤسسات التي تعتمد تقنيات صديقة للبيئة أو تطبق أنظمة الإدارة البيئية. كما يمكن إنشاء صناديق تمويل بيئي لدعم المشاريع الصغيرة التي تسهم في معالجة النفايات وتوفير بدائل نظيفة للطاقة.
ولا يمكن إغفال دور التثقيف البيئي، الذي ينبغي أن يبدأ من المناهج الدراسية، ويمتد إلى الحملات الإعلامية والبرامج المجتمعية، بهدف ترسيخ ثقافة المحافظة على البيئة في سلوك الأفراد والمؤسسات على حد سواء. فالتغيير الحقيقي يبدأ من وعي المواطن بدوره في خفض التلوث، سواء من خلال تقليل استهلاك البلاستيك، أو المشاركة في أنشطة إعادة التدوير، أو المساهمة في زيادة الغطاء النباتي الأخضر، أو التبليغ عن المخالفات البيئية.
وبناءً على ما تقدم، فإن السيطرة على التلوث البيئي في العراق تتطلب جهدًا وطنيًا مشتركًا ومبنيًا على أسس علمية وعملية واضحة. ومن خلال دمج السياسات البيئية مع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يمكن بناء مستقبل أكثر استدامة يحمي الموارد الطبيعية ويحسن نوعية الحياة للأجيال الحالية والمستقبلية.